الحلقه الثانيه

النيترون المنضب و العرب

مارك براون/ قسم الرعاية الطبية للمحاربين القادمى في واشنطن:

لقد أمسكت بإحدى هذه القذائف في يدي، اليورانيوم ليس مادة تحتاج إلى أن تختبىء منها أو ما إلى ذلك، إنها متوسطة الإشعاع في السياق العام مقارنة بمواد مشعة أخرى كالوقود النووي مثلاً، الذي هو أكثر إشعاعاً بكثير، لا تفهمني خطأ، أنا لا أقول: إن هذه المادة غير خطيرة، ولكن هناك أشياء كثيرة خطيرة، فمجرد مشيك في الشارع يعرضك لخطر التلوث من السيارات، ولا أعتقد أن درجة خطورتها تفسر كثيراً من المشاكل الصحية التي نراها اليوم.

 

دوغ روكه:

مارك براون لا يعلم أبداً عما يتحدث، في الوقت الراهن تقول أدبيات الحكومة: إن نسبة إشعاع قذائف اليورانيوم 60% مقارنة بغيرها، لكنهم يصرون على حذف بقيمة الجملة التي كتبتها أنا، فرغم أننا أثناء عملية الفصل نقوم بعزل اليورانيوم الذي يطلق أشعة جاما وأشعة بيتا ذات الطاقة العالية، فإن ما يتبقى –وهو اليورانيوم المنضب- يكون قادراً على إطلاق أشعة ألفا، وهذه الأشعة تسبب أضراراً بالغة بأنسجة الجسم، فحين يقول: إن اليورانيوم متوسط الإشعاع، فإن ذلك يشبه قولي لك: إن امرأة حبلى إلى حد ما، أنا آسف.

ما يقرب من مائتي ألف جندي خضعوا للرعاية الطبية، وطالبوا بتعويضات، ثلث الجيش الأمريكي اشتكى من مشاكل صحية.

 

يسري فوده:

هذا العدد الضخم الذي تحاول السلطات الأمريكية إخفاءه كان جانب منه موضوعاً لدراسة حثيثة من قبل أحد أبرز العلماء الأمريكيين الذين اشتركوا في حرب الخليج.

د. آساف ديور اكوفيتش / عقيد سابق في الجيش الأمريكي:

كلهم جميعاً -بلا استثناء- أكدوا لي تعرضهم للإشعاع، سألتهم: كيف علموا؟ فقالوا: إن فريقاً جاء من واشنطن يشبهون في ملبسهم رواد الفضاء، يرتدون حللاً بيضاء واقية، تغطيهم من مفرق الشعر حتى إخمص القدم، لا يكشفون عن قدر أنملة من أجسامهم، وقاموا بقياس مستويات الإشعاع الصادر عن الدبابات التي كان هؤلاء الجنود يدفنونها في رمال الكويت، كان مستوى الإشعاع في المنطقة المحيطة والدبابات وعلى الدبابات مرتفعاً للغاية.

أرسلت عينات البول لهؤلاء الجنود إلى المعمل العسكري للكيمياء الإشعاعية في (ميريلاند) وكان ذلك أشبه بقصة بوليسية (أجاثا كرستي) أو (شارلوك هولمز). قالوا: أولاً إن العينات لم تصل إلى المعمل، ثم قالوا: إنها وصلت، لكنها سلبية، وحين اتصلت برئيس المعمل قال: إن النتائج ضاعت.

ثم سألت مدير المستشفى إن كان متخصصاً في الطب، لم يكن. بعد ذلك نصحني رئيس الموظفين بوقف أبحاثي، فلم أفعل. ففصلوني من وظيفتي، ولم أحزن كثيراً، لكنني مضيت في أبحاثي على نفقتي الخاصة، وقد أظهرت نتائج البحث بكل وضوح وجود اليورانيوم المنضب داخل جنود حرب الخليج من أمريكا وإنجلترا وكندا بعد عشر سنوات على انتهاء الحرب.

 

يسري فوده:

من بين هؤلاء ضابط بريطاني كان أحد أفراد فريق الجراحة في مستشفى ميداني في شمال المملكة العربية السعودية أثناء الحرب، اتصل به دكتور (آساف ديوراكوفيتش) رغم أنه لم يشترك في القتال الفعلي، ولم يغادر المستشفى.

ريموند بريستو/ ضابط سابق في الجيش البريطاني:

قلت له: نعم، لا مانع لدي في خضوعي للاختبار، وإن كنت أعتقد أنه لن ينطبق علي، إذ إن فهمي آنذاك أنه ربما يصيب هؤلاء فقط الذين اقتربوا من الانفجارات، لكن الاختبار أثبت وجود اليورانيوم داخلي، وهو ما فاجأني، إذ إنني كنت على بعد عشرين كيلو متراً من الحدود داخل السعودية، لم أغادر السعودية أبداً، ولم أدخل العراق أبداً، ولا الكويت، وهو ما يعني أن التلوث ربما أتاني عن طريق الرياح، أو عن طريق الجرحى القادمين إلى المستشفى الذين استخدم هذا السلاح ضدهم. عندما اختبروني أولاً، قالوا: إن في داخلي أكثر من مائة ضعف مستوى الإشعاع الذي لا ينبغي تجاوزه في عام.

 

يسري فوده:

وقع بين أيدي قناة الجزيرة هذا الشريط المصور الذي أنتجته القوات المسلحة الأمريكية لتحذير أفرادها من ذخيرة اليورانيوم المنضب، اعترافٌ سافر لا يقبل الشك. جاء هذا التحذير بعد انتهاء الحرب، وجاء فقط للجنود الأمريكيين.

 

دوغ روكه:

بناء على توصياتي وتوصيات آخرين حددت وزارة الدفاع أنه لا ينبغي لأحد أن يتسلق، أو يقترب، أو يدخل إلى مسافة خمسين متراً من أي أجهزة ملوثة باليورانيوم دون ارتداء سترة واقية، هذه تعليمات الجيش نفسه.

 

دان فاهي:

هذه المعلومات لم توزع على الجنود المحاربين، فقام الآلاف بعد الحرب بتسلق المعدات المدمرة لالتقاط الصور والبحث عن تذكارات، وبعد الحرب نقل جانب منها إلى أمريكا على سبيل التذكار، أو لإجراء التحليلات.

ريموند بريستو:

لدي وثيقة بريطانية تقول: إنه بعد استخدام اليورانيوم المنضب ربما لن يستخدم ثانية نتيجة ضغوط شعبية، صدرت هذه الوثيقة قبل قيام العراق بغزو الكويت.

 

يسري فوده:

عندما وصلت الأنباء إلى بغداد بدأ العراقيون يهتمون بالبحث في فضيحة اليورانيوم المنضب، عقدوا سلسلة من المؤتمرات والندوات العلمية، كان هذا أحدها في عام 1998.

رغم تدهور حالته الصحية، ضرب الضابط البريطاني (ري بريستو) عرض الحائط بالحصار المفروض على العراق، وشارك في أعمال المؤتمر.

ريموند بريستو:

ما أردت حقاً أن أفعله هو أن أقابل بعض الجنود العراقيين الذين شاركوا في حرب الخليج، كي أقف على حالتهم، وعلى ما إذا كانوا مرضى مثلنا.

نعم وجدتهم مثلنا، لديهم الأعراض نفسها تماماً التي لدينا، لكن قلبي انفطر لهم، إذ إن لدينا نحن الإمكانات فيما يحرمون هم منها، ويحرم العراق منها بسبب العقوبات، لقد رأيت ذلك بعيني.

يسري فوده:

أثناء وجوده في فندق الرشيد في بغداد، كان شيء ما يحدث في منزله في إنجلترا.

ريموند بريستو:

صعدت إلى غرفتي للاستراحة، إذ كنت متعباً من السفر، فوجدت رسالة من شبكة (CBS) يقولون لي فيها: إن الشرطة البريطانية داهمت منزلين لاثنين من جنود حرب الخليج في المملكة المتحدة، وأن أحدهما كان منزلي.

يسري فوده:

إن لم يكن لدى الأمريكيين والبريطانيين ما يخشونه، لماذا إذاً يتعقبون كل من يبحث عن الحقيقة وراء أسلحة اليورانيوم المنضب؟

لماذا يقتفون أثر كل من يدلي بشهادة، أو يقوم ببحث علمي، أو يجمع دليلاً من هنا أو هناك؟

تطول القائمة، فسوى أنهم اكتووا بنار اليورانيوم المنضب تفرض عليهم في الوقت نفسه نماذج سافرة من إرهاب الدولة على أيدي عصابات الدولة.

دوغ روكه:

بكل تأكيد، لقد تلقيت تهديدات مباشرة من مسؤولين عسكريين أمريكيين لوقف أنشطتي للحصول على رعاية طبية وحماية للبيئة، فقدت وظائف لتجرؤي على التفوه.

في أبريل (نيسان) من هذا العام أطلق أحدهم النار علينا، جاءت الشرطة للتحقيق في الأمر، وبعدها بأسابيع قليلة داهم بعضهم منزلي، وقلبوه رأساً على عقب، كانوا محترفين.

وفي مرة أخرى عدت إلى منزلي مع فريق للتصوير فرأيناهم يقفزون من الباب الخلفي، زملائي تعرضوا للتهديد، (روبرت روبن) ضربوه في (بورتوريكو) لدي وثائق مصورة دامغة، قام موظفون في البحرية الأمريكية بجره من سيارته، وأوسعوه ضرباً، أطباء حُرقت مكاتبهم، علماء سرقت أجهزتهم، أرسلوا إلينا جميعاً فيروسات إليكترونية، وأخيراً أرسلوا لي تهديداً من عقيد إلى أختي، ومن أختي إلى زوجتي، ومن زوجتي إليّ.

دان فاهي:

نعم، من وزارة الدفاع، هددوني بأنهم سيرفعون ضدي قضية قذف عام 1997 لأنني شككت في مصداقيتهم، واتهموني بالوقوع تحت تأثير الدعاية العراقية، وبالعمل لأهداف سرية من بينها نزع أسلحة العالم، جربوا طرقاً مختلفة للهجوم على شخصي، واتهموا عملي بأنه غير علمي، لكن ردي على ذلك أنك لا تحتاج إلى خلفية علمية كي تقرأ تقريراً عسكرياً يقول: إن التعرض لليورانيوم المنضب يسبب السرطان.

يسري فوده:

أما العالم الأمريكي (ديوراكوفيتش) فقد انقطع رزقه في الولايات المتحدة، وضاعت عيناته في البريد، وتوسل إلينا ألا نعلن عن مكان عمله الجديد في إحدى دول الخليج.

د. آساف يدوراكوفيتش:

إن البشرية تخرج من حالة التبعية والجهل إلى حالة العولمة، وإلى مزيد من الحريات الشخصية، ويوماً ما سننظر إلى الوراء باحتقار وقرف متسائلين: كيف -على الإطلاق- سُمح لمثل هذه الأشياء أن تحدث لدى مفترق القرنين العشرين والحادي والعشرين!!

 

يسري فوده:

هذا العالم الألماني الكبير (هورست جونتر) الذي رشح لنيل جائزة نوبل، ربما لن يحصُل عليها أبداً، إذ إنه كان أول عالم يكشف النقاب عن فضيحة اليورانيوم المنضب، عندما عاد إلى بلاده ببقايا قذيفة منه وجدها في جنوب العراق، وفقاً لوثيقة ألمانية رسمية سُجن الرجل لأنه عرض حياة الشعب الألماني لخطر الإشعاع!

البروفيسور سيغفارت هورست غونتر / مرشح لجائزة نوبل للسلام:

هذا المقذوف الذي وجدته يطلق إشعاعاً معدله أحد عشر ميكروسيفر في الساعة. المعدل السنوي المسموح به في ألمانيا هو ثلاثمائة ميكروسيفر في العام، فإذا حسبناها على هذا الأساس، سنجد أن المعنى هو أنك إذا أمسكت بمقذوف واحد من مقذوفات اليورانيوم المنضب، فإن معدل الإشعاع المسموح به في ألمانيا في خلال عام كامل سيدخل إلى جسدك في خلال يوم واحد.

لديك الآن في جنوب العراق نسبة سرطان الدم تعادل خمسة أضعاف نسبته قبل الحرب، وقد اكتشفت مرضاً آخرَ مجهولاً في منطقة البصرة، هذا الطفل كان يلعب ببقايا مقذوف اليورانيوم فأصيب وجهه بهذه القروح، هذه القروح تتفاقم تدريجياً كما تراها هنا.

في يناير / كانون الثاني عام 93 وقعت محاولة لقتلي هنا أمام منزلي، بعد ذلك أوقفوا راتبي التقاعدي، وحرموني من حقي في الضمان الاجتماعي، وفي مايو / آيار عام 94، دعيت إلى كوالالمبور لإقاء محاضرة، ولدي عودتي هاجمني شخصان، واستوليا على حقيبتي وبها مستندات وأبحاث عن اليورانيوم المنضب، ومجموعة من الشرائح المصورة، وفي يونيو / حزيران عام 95 اعتقلتني الشرطة الألمانية في هذه الغرفة، واضطررت إلى دفع غرامة قدرها ثلاثة آلاف مارك بتهمة إطلاق الإشعاع.

 

يسري فوده:

لم تكتف الولايات المتحدة وحلفاؤها بما حدث من جراء اليورانيوم المنضب في حرب الخليج، بل إن أكثر من عشرة أطنان أخرى ألقيت بُعيد ذلك على منطقة تصادف أن معظم سكانها مسلمون: البلقان، كوسوفو، والبوسنة. رغم أن سنوات طويلة لم تمر بعد، قفزت حالات سرطان الدم، وبدأ الناس هنا يشعرون بشيء غريب.

 

د. دراغومير كوزوريتش / أخصائي أمراض السرطان – مستشفى سراييفو:

نعم، أثناء قصف سراييفو وما حولها، أنا شخصياً شعرت مرتين بانتشار غاز مصحوب برائحة غريبة، تساءلت يومها: هل يمكن لهذه الرائحة أن تؤثر في صحة الناس؟ أثناء الحرب نفسها لم ألاحظ زيادة في حالة السرطان، لاحظت بعدها –ليس بالضرورة في سراييفو وحدها التي يبلغ عدد سكانها خمسمائة ألف نسمة- ولكن على وجه أخص في مدينة (توزلا) وما حولها.

 

د. كريستوفر بسبي:

ما من شك لدي على الإطلاق سواءٌ في الخطأ في قياس جرعات الإشعاع وتأثيرها على الصحة، أو في الحكم على اليورانيوم كمعدن لا كجزيء، ما الذي يمكن أن نقول أكثر من ذلك؟ إنها جريمة حرب.

يسري فوده:

لدى تلك النقطة كان العالم البريطاني (كريس بسبي) قد قبل دعوتي للحاق بي إلى جنوب العراق، وكانت وزارة الدفاع البريطانية لا تزال تفكر، تمنحنا وزيراً، أو حتى متحدثاً باسمها، أو لا تمنحنا، وكنت أنا أشتري البدلات الواقية من التلوث لفريق التصوير.

ما يعنينا في واقع الأمر هو تلك المعجنة الكبرى التي خلفوها وراءهم في بلادنا، في العراق، في الكويت، وفي السعودية.